رسالة الأنبياء للشعب اليهودي في السبي البابلي هل تنطبق على شعبنا المسيحي
اليوم ؟
نافع البرواري
قام ألأنبياء والكهنة كممثلين لله ، وكان دور النبي هو أن يتكلم عن الله ويواجه الشعب وقادته بأوامر الله ووعوده . وبسبب موقف المواجه ، ونزعة الشعب المستمرة لعصيان الله ، كان الأنبياء الحقيقيّون غير محبوبين . ومع أنَّ رسالتهم كثيرا ما لاقت آذانا صمّاء ، الاّ أنّهم أذاعو الحق بأمانة وبقوّة . وكان الأنبياء يدعون مملكتي "يهوذا" و"اسرائيل" والأمم الوثنية المحيطة بهما الى التوبة عن خطاياهم ، وينذروهم بالويلات ، في حالة عدم رجوعهم الى الله الحقيقي وتطهير الشعب لمساعدته على فهم حقيقة الهه ورسالته الحقيقية .
تبدو احيانا تعاليم النبي وكأنّه يسير عكس التيار ، فيحتج على الطبقة الحاكمة التي تهتم بالترتيبات السياسية ، التي تخالف الحق والعدل في المجتمع ، ويهاجم الممارسات الدينية التي يحتمي وراءها الذين يستغلون المساكين . وهذا ما كان يفعله النبي اشعياء ، فكان يدعو الناس الى ألأيمان ، ويقول لهم "ان لم يكن فيهم ايمان فلن
يكونوا في أمان" راجع شرح المقدمة لسفر اشعياء . كان اشعيا النبي المناضل الذي لايُلين مزودا بقوة الله وهو يُعلن ، دون أدنى خوف ، كلمة الله ويذيع الحق بأمانة وقوّة . كان يُنظر الى اشعياء ، كمعظم ألأنبياء ، بأنَّه خائن لأنَهُ لم يؤيِّد سياسة يهوذا القومية ، فقد دعى الشعب الى تسليم أنفسهم أولا لله ثُمَّ للملك "راجع اشعياء 8 : 11 - 15 ".
وما أشبه اليوم بالبارحة ، فالكثيرون منَّا يفتخرون بقوميَّتهم أكثر من أفتخارهم بمخلِّصهم يسوع المسيح ، والكثيرون اصبحوا مهوَّسين في البحث عن جذورهم الوثنية بدل أن يركِّزوا على جذورهم المسيحية ، والكثيرون يتمسَّكون بقوميتهم متوهمين ان َّ ذلك هو السبيل الوحيد للخلاص من الوضع الماساوي الذي هم فيهِ . ولكنهم نسوا أنَّ الشخص الوحيد الذي نستطيع ألأعتماد عليه ليخلِّصنا ، من الحالة المأساوية التي نعيشُها ، هو وحده يسوع المسيح .
كان ارميا النبي الملقب (بالنبي الباكي دهرا) يحذِّر شعبه من تجاهل الخطية وعدم ألأصغاء لتحذير الله ، اذ كان يعرف مقدما ، كمتحدِّث باسم الله ، ما سوف يحدث لبلده يهوذا، ولأورشليم العاصمة"مدينة الله" ، لقد أقترب قضاء الله من موعده وبات الدمار وشيكا . وبكى أرميا ، ولم تتمركز دموعه حول ذاته ، لكنه بكى لأنَّ الناس رفضوا الههم ،ألأله الذي أحبَّهم . أنكسر قلبه لأنَّه كان يعلم أنَّ أنانية الناس وحياة الخطية ستؤدي بهم الى متاعب كثيرة وسبي طويل . في مرحلة من أرساليته ، طُرِح أرميا في جب فارغ وتُرك في الوحل في القاع "ارميا 38: 6 -13 " لكن الله انقذه واستخدم أرميا هذه التجربة ليصوِّر غرق الأُمَّة في الخطية . لقد تنبَّأ أرميا عن خراب أورشليم ، فنراه كواحدُ من خُدّأم الله المختارين مهموما بشعبه وحبه لأمّته ، واقفا وحيدا وسط عمق أنفعالاته ، وكان سوطا صارخا في البرية يُنذر شعبه بالتوبة والرجوع الى الله .
أمّا دانيال النبي فكان يقف وحده أمام طاغية أناني (نبوخذ نصر) وكان محاطا بعبدة أوثان ويعيش في بلد غريب وشعب غريب ، وفوق ذلك كان يعيش حزينا بسبب شعبه الذي تمزّق وتشتّت في الغربة ، وبدلا من ألأنهيار أوألأستسلام ، تمسّك بأيمانه بالههِ ، ورأى ، برغم كُلِّ هذه الظروف ، أنَّ الله هو المهيمن على كُلِّ شيء ، وينفِّذ خطَّته للأُمم وألأفراد على السواء . وكان يتحدث عن محاولات الله المستمرة لأعادة بني اسرائيل اليه ثانية . وللأسف ، وحتى بعد أن نالتهم الكوارث ، رفضوا أن يُطيعوهُ ، وما زال الله يستخدم الظروف والآخرين وفوق الكُل كلمتهِ المقدسة ليعيد الضالين اليه .
اليس هذا ينطبق على شعبنا المسيحي في العراق ؟ الم يتحوَّل الكثيرون من المسيحيّيون الىالأعتزاز بالآلهة الوثنية للآشوريين والبابليين وتركوا نبع الماء الحي ربنا يسوع المسيح ؟ اليس حالة شعبنا اليوم في الداخل وفي الشتاة كحالة شعب اسرائيل عندما سقطت أورشليم بيد البابليين وتم جلب نخبة الشعب الأسرائيلي الى بابل عاصمة الكلدانيين الوثنيين ؟. يقول الله على لسان النبي ارميا :" فلا الكهنة قالوا : أين الربُّ ، ولا معلِّموا الشريعة عرفوني ، والحُكّام أنفسهم عصوني ، والأنبياء تنبَّئوا باسم البعل(اله الوثنيين) وذهبوا وراءَ اله لا نفع فيه ، لذلك أُخاصمكم يا شعبي ، وأُخاصم بنيكم" ارميا 2 : 8 ،9
اليهود عبدوا اله البعل وهو اله الكنعانيين وخانوا العهد مع الههم القدوس ، وهكذا اليوم ترك الكثيرون من المسيحيين في العراق أيمانهم بالمسيح وعبدوا السلطة والمال وشهوات هذا العصر ، فهنا يعيد التاريخ نفسهُ . فالكتاب المقدس هو دروس وعبر لنا لنتَّعض ونتوب ونرجع الى الرب يسوع المسيح.
كان الأنبياء أحيانا كثيرة يقفون وحدهم في محاربة الظلم والفساد للملوك وكذلك كانوا يواجهون ألأنبياء الكذبة ، وكهنة الهيكل ، وحتى مواجهتهم للشعب الذي تحول عن عبادة الله بعبادة ألآلهة الوثنية. وقد جعلت عدم استجابة الناس لهم بأن يصابوا احيانا كثيرة بالأحباط وبالمرارة ، فتوصيل كلمة الله وحقائق الكتاب المقدس الى العالم الساقط مسؤولية شاقة ومحفوفة بالمخاطر ، ولكن بالرغم من كل ذلك كان الأنبياء الصادقين يواصلون الجهاد لأبلاغ ألآخرين بعواقب الخطية.(راجع شروحات في مقدمة ارميا النبي للكتاب المقدس التغسير التطبيقي) .
لقد خُرِّبت أورشليم بسبب الخطية ، ودُمِّر الهيكل وسُبي الشعب اليهودي الى بابل. فبرغم أنَّ بابل كانت خاطئة ، فقد استخدمها الله لعقاب يهوذا وأورشليم العاصمة.
وأدى الأحتلال البابلي ليهودا الى انتشار العنف والأستعباد فيها . وفقد الشعب اليهودي سلامه وحُرِّيته ، اذ سُحقت هويته على يد محتل أقوى منه . وما أشبه حالتنا نحن المسيحيين في العراق بحالة الشعب اليهودي قبل حوالي 2500 سنة . لقد أضطر اسرائيل ، كشعب مؤمن ، (وهو يمثل اليوم أيضا جميع المؤمنين المسيحيين) الى أجتياز تجارب من هذا النوع .
يؤدي أحتلال بلد ما الى انتشار العنف والأستعباد فيها . ويفقد الشعب المضطهد سلامه وحريَّته اذا سحقت هويَّته على يد محتل أقوى منه . الواقع ، كانت حقيقة المنفى في بابل الحقبة أكثر صعوبة ، فأسرائيل الذي فقد كل شيء ، وجد ذاته خارج بلاده ، بلا هيكل ولا مَلك (وهكذا نحن المسيحيين اليوم في المهجر بعد أن خرجنا من أوطاننا نتيجة ألأضطهاد والتعسف والترهيب والتخويف وبطش المحتلين الذين أحتلوا ديارنا وصحّروا ثقافتنا وزوَّروا تاريخنا ومسحوا ذاكرتنا وألغوا لغتنا الجميلة وأستبدلوها بلغة المحتل ، وجدنا انفسنا مضطرين لنعيش في المهجر ، الذي يمكن اعتباره منفى لنا لنعيش في ضياع الهوية والوطن ، كما حصل لبني أسرائيل عندما نفيوا الى بابل ونينوى وفرضت عليهم اللغة البابلية ألآرامية). ولكن ذلك لم يحدث أبدا من دون تدخُّل الهي . فلم يتوقف الله ، بواسطة أنبيائه ، عن توجيه كلامه الى شريكه في العهد. ففي خضم كُلِّ هذه الظروف الماساوية كان ألأنبياء لهم رجاء أن يفتقد الله شعبه ولا يتركه تحت حكم المحتلين والظالمين . انَّ هذا الوضع غالبا ما يختزن صرخة صامتة تعبِّر عنها الرغبة في ايجاد مُخلّص . وهذا المُخلّص يجب أن يأتي . فالله سيظل أمينا على الدوام نحو شعبه وستبقى رحمته وسط البلوى . والله قادرعلى نقل الشعب من حالة ألأسر والألم الى حالة خلاص . يقول الرب عن المحتلين "سأسأل عن غنمي وأتفقدها . كما يتفقَّد الرَّاعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة ، وأنقذها من جميع المواضع التي تشتّت فيها يوم الغيمِ والضباب . وأُخرجها من بين الشعوب وأجمعها من البلدان وأجيءُ بها الى أرضها ...أنا أرعى غنمي ، وأنا أُعيدها الى حظيرتها فأبحث عن المفقودة وأرُد الشَّاردة وأُجبر المكسورة وأقوّي الضعيفة وأحفظ السِّمينة والقويّة وأرعاها كُلُّها بعدل ...وأُعاهد غنمي عهدَ سلام وأردُّ الوحش الضاري عن ألأرض فتسكن في البريّة آمنة وتنام في الغاب ...فتعلم أنّي أنا هو الرب الههم ، معهم أكون "حزقيال 34 : 11الى 31".
نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين ولكننا نقرأ العهد القديم (قبل 2500سنة) على ضوء العهد الجديد ، وأقوال الأنبياء على ضوء أقوال ألأنجيل ، أي قرائة حاضرة لأحداث اليوم الذي يعيشها شعبنا المسيحي في العراق ، فنتأمَّل في قرأءة الكتاب المقدّس فنستلهم ونستخلص منه الدروس والعبر ، عن أحداث وقعت في الماضي لتشخيص واقعنا اليوم وكيف نواجه وضعنا الحالي ولتكون لنا رؤى للمستقبل . انَّ تعزية المؤمنين هي في قراءة أقوال الرب يسوع المسيح والثقة به فهو الراعي الصالح ، والراعي الصالح لايترك خرافه بل يدافع عنها ويقودها الى المراعي الخضراء وينابيع المياه الصافية .
فكما انَّ الشعب الأسرائيلي لم ينتهي تاريخهم لأنّ الله بعث لهم أنبياء أمثال دانيال الذي أُخذ ليكون مستشارا للملك نبوخذنصر ، وبمعونة من الله أستطاع دانيال تفسير حلمين للملك . وقد نجا أصدقاء دانيال الثلاثة من الموت في اتون النار كما نجا دانيال من جب ألأسود . هكذا تقدم لنا حياة دانيال صورة لأنتصار ألأيمان . ليعطينا الله هذا ألأيمان حتى نعيش نحن ايضا ، في هذه الفترة العصيبة ، بكل شجاعة في كل يوم ، عاملين ما هو حق ، ولا ننهار أمام الضغوطات المحيطة بنا ، كما فعل دانيال النبي ، فبالرغم من أنَّه كان أسيرا في أرض غريبة ، الاّ أنَّ ولائه للرب كان شهادة أمام الحكام ألأقوياء"راجع دانيال 6 :25الى 27" .
كان روح الله مع الأنبياء يرافقهم ويعزّيهم ويعطيهم الرجاء. هكذا نحن اليوم كمؤمنين متشردين في أصقاع العالم ، أذا حافظنا وتمسكنا بايماننا بالراعي الصالح يسوع المسيح فهو سيظل يرافقنا بروحه القدوس ولن يتركنا أبدا بل سيرعى قطيعه المشتَِّت ويمنحنا السلام والرضى وألأمان حتى في أحلك الظروف . فعندما يقصر قادتنا في حقنا ، لا يجب أن نيأس بل نتذكَّر أنَّ الرب يسودُ ، وهو يَعِد بأن يعود ويعتني برعيته ، فما علينا الاّ أن نلتفت الى الله ليكون هو عوننا فيحوّل المواقف الصعبة الى الخير لنا وما نظنُّه نقمة لنا يحوِّله الى نعمة لنا ويُخرجُ من الشر خيرا ومن الظُلمة نورٌ ومن الموت حياة ، وسيخلع القادة المتمردين الذين يحدّونه ، ويبيد الشرير ويخلِّص ألأُمناء الذين يتبعونه لأنَّ هؤلاء المؤمنين وضعوا ثقتمهم ومستقبلهم بيد الرب المسيطر على كُلِّ شيء ، فالثقة بأمانة الله يوما بيوم تجعلنا واثقين في وعوده العظيمة بشأن المستقبل .